كانت المدرسة الرمزية SYMBOLISM قد جعلت من التعبير الرمزي هو الشكل الأوحد للتجربة الجمالية في الفن؛ فإن ذلك لايعني أن الرمز بوصفه شكلاً من أشكال التعبير الجمالي، لم يكن له وجود أو أهمية في الفن من قبل. كما لايعني أن شعر الحداثة العربية يمكن أن ينضوي تحت المدرسة الرمزية، لاتكائه الكبير على التعبير الرمزي، أو لإفادته التقنية من هذه المدرسة، بحسب مايذهب إليه بعض النقاد . إذ يؤكدون أن هذا الشعر ينتمي مدرسياً إلى الرمزية. وهم، في هذا التأكيد، ينسون أن التصنيف المدرسي ينبغي أن ينطلق من تحديد هذا المستوى الفني أو ذاك، كما أسلفنا سابقاً.
ولتعميق هذه المقولة، نشير إلى أن التعامل الرمزي، في تلك المدرسة، لم يكن أسلوباً فنياً فحسب. بل كان أيضاً موقفاً جمالياً وفلسفياً من العالم، وقد تبدّى هذا في الأطروحات الاجتماعية والأخلاقية والفنية، لتلك المدرسة التي ترى "أن الواقع لايصلح أن يكون منطلقاً للفن، فالمثال هو المطمح. والجمال وحده هو الموضوع". ومن ذلك، لم يكن مالارميه ـ أحد أهم الشعراء الرمزيين ـ يهدف من الجمال إلا إلى الجمال . وليس هذا فحسب. بل إن سعيه الدؤوب إلى الجمال المثالي قد جعله يحلم ، لمدة عشرين عاماً، بأن ينتج شعراً صافياً من دون أن ينتج إلا القليل من الشعر. وقد تطرّف مالارميه، بوصفه ممثلاً للرمزية ، في الاهتمام بما هو تقني، إلى الحد الذي يمكن فيه أن تتم المصالحة بين جماليات الشعر الصافي ـ كما ظهرت عنده ـ وبين الجماليات الكلاسيكية المتكلفة. ولم يكن الأساس في ذلك إلا الرغبة الجامحة في الوصول إلى الجمال المثالي المطلق الذي يحيل على الواقع ولايتدنّس بسلبياته. ومايصحّ على مالارميه يصحّ على غيره من شعراء المدرسة الرمزية، من مثل بودلير ورامبو اللذين لم يكونا أقل نزوعاً إلى الجمال المثالي من مالارميه، ولم يكونا أيضاً أكثر غزارة منه على صعيد الإنتاج الشعري.
إن هذا النزوع إلى الجمال المثالي هو الذي يسوِّغ دعوة المدرسة الرمزية إلى مقولة الفن للفن.
حيث لاينبغي أن يحيل الفن على سواه، إذ الهدف من الجمال هو الجمال، فحسب وغني عن البيان أن مفهوم الجمال، هنا، يعني ما هو تقني ، مثلما يعني ماهو مثالي مجرد.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن لقب "المنحط" DECADENT الذي كان الشاعر الرمزي يكرّم نفسه وأصدقاءه به، كان في أساسه موقفاً سلبياً حاداً من عالم مادي مبتذل. أي "كانت بدعة الانحطاط وسيلة يحمي بها المرء (أي الشاعر الرمزي) نفسه من تفاهة البرجوازية وبلادة عالم يستسلم أكثر فأكثر للاتجاه الصناعي". وكأن الانحطاطDECADENCE هو الوجه الآخر للجمال المثالي.... بمعنى أن الشاعر الذي يسعى إلى هذا النوع من الجمال، سوف يكون ممتناً، إذا ماوُصِف بالانحطاط، في واقع مبتذل خال من الجمال. فعدم الانحطاط يبدو للشاعر الرمزي انغماساً في القبح السائد. ولهذا فإن افتخاره بالانحطاط هو في أساسه رفض للواقع بقيمه وعلاقاته، مثلما هو دفاع عن الجمال المثالي الذي لم يتلوّث بالنفعية البرجوازية التي لاينجو منها شيء أو قيمة. ومن هنا، فإن طرح الرمزية لمقولة الفن للفن لاينسجم والجمال المثالي الذي تسعى إليه فحسب، بل ينسجم أيضاً ورفض الجوهر القيمي للبرجوازية ألا وهو النفعية. وكما يقول سارتر، فإن البرجوازية "لاتفهم العمل الأدبي على أنه خلق مجاني مجرّد . بل على أنه خدمة مأجورة ".
ولهذا فإن رفض ذلك الجوهر قد أدى إلى الارتفاع بالجمال إلى ماهو مثالي مجرد، مثلما أدّى إلى نفي النفعية عن الفن. حتى قال غوتييه " كل فنان يهدف إلى ماسوى الجمال فليس بفنان".
أما أوسكار وايلد، فإنه يصفح " عن صاحب الفن المفيد إذا أدرك أن فنه ليس جميلاً".
فالرمزية إذاً، موقف اجتماعي ـ جمالي، قبل أن تكون أسلوباً فنياً، أو الأصحّ أن هذا الموقف هو الذي انعكس بشكل فني رمزي. ولهذا فإن أي حركة شعرية لاتتلاءم في أطروحاتها الاجتماعية والجمالية، مع أطروحات تلك المدرسة، لايمكن لنا أن نعدّها منتمية إليها أو منضوبة تحتها، وإن تكن قد أفادت من منجزاتها التقنية. فالتشاكل في الأسلوب الفني لايؤدي بالضرورة إلى التشاكل في الموقف الجمالي. مع العلم أن هذا الموقف هو الأساس في التباين المدرسي في الفن.
نقول ذلك، على الرغم من كونه بدهية في الدرس الجمالي للفن. غير أن هذه البدهية كثيراً مايتمُّ تناسيها، حين يذهب بعض النقاد إلى تصنيف شعر الحداثة العربية تحت هذه المدرسة أو تلك، ولاسيما الرمزية.
إن إطلاق مصطلح التيار الرمزي على شعر الحداثة يغفل أن ثمة تعارضاً. بل تناقضاً، على صعيد الموقف الإجتماعي ـ الجمالي، بين كل من الرمزية وشعر الحداثة.
فالواقع هو المجال الحيوي الذي يتحرك فيه هذا الشعر، وهو المعنيّ بالتقويم والتغيير، لا المثال أو الجمال المجرد، كما هي الحال في الرمزية. ولهذا فإن شعر الحداثة قد زجَّ بنفسه في أتون الصراع الاجتماعي، رافضاً أن ينكفئ على ماهو ذاتي أو شكلي أو وهمي . أي أن لهذا الشعر وظيفة اجتماعية ـ جمالية ذات مضمون ثوري تغييري. وهو مايعني أن صفة "الثوري" هي التي يفخر بها الشاعر الحداثي، لا صفة "المنحطّ". وذلك بصرف النظر عن طبيعة تلك الثورية. وهل هي طبيعة سياسية أو فكرية أو قيمية.
لقد طبعت صفة الثورية شعر الحداثة بطابع صدامي مع كل مايتنافى والقيم الجمالية التي يدافع عنها أو يسعى إلى طرحها. ولهذا لاغرابة في أن تتصدّر قيمة البطولي HEROIC لائحة القيم المطروحة. إذ إن البطولي هو المعادل الجمالي للثوري. ولاغرابة أيضاً في أن يتصّف الجمال، في شعر الحداثة، بطابع صدامي. بل حتى مفهوم المغترب المعذب الذي كثيراً مانواجهه في هذا الشعر، لايقوم على ماهو وجودي، كما في الرمزية، وإنما يقوم على ماهو اجتماعي وسياسي وقيمي ذو طابع صدامي أيضاً. والحقيقة أن دراسة القيم الجمالية التي طرحها شعر الحداثة تؤكّد بمالايدع مجالاً للشك أن هذا الشعر على تناقض مع الرمزية بوصفها موقفاً اجتماعياً ـ جمالياً. غير أن هذا التأكيد لاينفي إفادة هذا الشعر من الرمزية بوصفها أسلوباً فنياً.
يمكن تعريف الرمز الفنيARTISTIC SYMBOL بأنه صورة الشيء محوّلاً إلى شيء آخر، بمقتضى التشاكل المجازي، بحيث يغدو لكلٍّ منهما الشرعية في أن يستعلن في فضاء النص. فثمة، إذاً، ثنائية مضمرة في الرمز. وهذه الثنائية تحيل على تقويمين جماليين متماثلين. مع الإشارة إلى أن هذا التماثل هو الأساس في التحويل الذي يجريه المبدع. أي هو الأساس في جعل الثنائية واحدية في الرمز. ولابأس من الإفادة من تعريف مؤلفي نظرية الأدب للرمز، على أنه "موضوع يشير إلى موضوع آخر. لكن فيه مايؤهّله لأن يتطلب الانتباه إليه لذاته ، كشيء معروض".
إن للرمز الفني عدة سمات إذا انتفت عنه، انتفى كونه رمزاً، وتحوّل إلى أن يكون مجرد إشارة أو علامةMARK أما تلك السمات فهي: الإيحائية، والانفعالية والتخييل، والحسية، والسياقية. إن سمة الإيحائية تعني أن للرمز الفني دلالات متعددة، ولايجوز أن يكون له دلالة واحدة فحسب، وإن يكن هذا لايمنع من أن تتصدر إحدى الدلالات.
إن تعدد الدلالات ينهض من الكثافة الشعورية والمعنوية التي يعبر عنها الرمز، ويقوم عليها. أي أن الإيحائية إذ تكون سمة للرمز، تكون أيضاً سمة للتجربة الجمالية من حيث الكثافة والعمق والتنوع. ولهذا فإن المجانية أو الاعتباطية في طرح الرموز، لن تؤدي، بحال من الأحوال، إلى إيحائية ذات وظيفة جمالية ـ تعبيرية. فالإيحاء الجمالي هو إيحاء مكثف ممتلئ بموضوعه، يؤدي وظيفة يعجز عنها التناول المباشر للتجربة أو للظواهر والأشياء.
أما سمة الانفعالية، فتعني أن هذا الرمز هو حامل انفعال لاحامل مقولة. وهو بذلك يختلف عن الرموز الدينية والمنطقية والعلمية والعملية التي هي مقولات ومفاهيم، لاانفعالات وأحاسيس.
ومن البدهي أن هذه السمة تأتي من طبيعة التجربة الجمالية التي هي طبيعة انفعالية بالضرورة. ولهذا فإن الرمز الفني لايلخّص فكرة أو يعبّر عن رأي ، أو يطرح موقفاً فكرياً؛ وإنما يكثف انفعالاً، ويعبر عن تجربة.
وتعني سمة التخييل أن الرمز نتاج المجاز لانتاج الحقيقة. ولهذا فإن ثمة تناولاً مجازياً للظواهر والأشياء، بحيث تتحول عن صفاتها المعهودة، لتدخل في علاقة جديدة مختلفة عن سياقها الواقعي. غير أن هذا التحول محكوم بطبيعة الأثر الجمالي الذي تخلفه الظواهر والأشياء في الذات المبدعة. بمعنى أن التخييل لاينبغي أن يكون سائباً، في الرمز، من الكينونة الواقعية. وهذا ليس خاصاً بالرمز وحده. بل هو أساس التخييل في الفن عامة. وذلك كما يؤكد ادورنوADORNO حيث يرى أن الانفلات المطلق من الكينونة الواقعية. لن يؤدي إلا إلى تخييل مجاني رخيص ومحدود القيمة.
وتحيل سمة الحسية على أن هذا الرمز يجسّد ولايجرّد، بخلاف الرموز الأخرى، أي أن التحويل الذي يتم في الرمز لاينهض بتجريد الأشياء من حسيتها بل ينقلها من مستواها الحسي المعروف إلى مستوى حسي آخر، لم يكن لها من قبل أو لم نعهده فيها. وهو مايتلاءم وصفة الحسية التي يتصف بها الفن عامة. غير أنه لابدّ من الإشارة إلى أن الحسية في الرمز لاتتنافى والإيحائية المعنوية فيه. فقد تكون عناصر النص الشعري كلها حسية، إلا أن دلالاته معنوية. إذ إن المعنوي، في الفن، لايمكن إلا أن يتبدّى حسياً.
أما سمة السياقية التي يتّسم بها الرمز الفني، من دون الرموز الأخرى، فتعني أن هذا الرمز لا أهمية له خارج السياق الفني. إن السياق هو الذي يعطيه أهميته وكينونته المتميزة، ومضمونه الجمالي. ومن ذلك، فإن الظاهرة الطبيعية الواحدة يمكن أن يتولّد منها عدد غير محدود من الرموز الفنية، بحسب عدد الآثار أو التحريضات الجمالية، فلاغرابة، إذاً، في أن يتناقض رمزان، على الصعيد الجمالي والإيحائي، وهما من كينونة واقعية واحدة، وفي الوقت نفسه يكون لكلٍّ منهما الأهمية ذاتها.
إن هذا الرمز، بارتباطه بالسياق الفني، متغيّر ومتجدّد دائماً، من حيث المضمون. فكل سياق يفرض مضموناً خاصاً به. ولايجوز التعامل مع الرمز الفني بمعزل عن سياقه، وكأن له كياناً عاماً مشتركاً بين النصوص الشعرية كافة، أو كأن الكينونة الواقعية ينبغي أن تفرض كينونة رمزية محدّدة.
إن سمة السياقية هي إحدى السمات الخاصة بالرمز الفني، حيث نلحظ أن الرموز الأخرى هي رموز غير سياقية. أي أن لها معنى محدداً، بمعزل عن السياق الذي ترد فيه، وذلك بسبب كونها مقولات معرفية، لاانفعالات جمالية. ولنأخذ الرمز الصوفي مثلاً على ذلك. فهذا الرمز رمز عقدي ـ معرفي ينتمي إلى نظرية المعرفة، بخلاف الرمز الفني الذي ينتمي إلى التجربة الجمالية. ومن هنا، فإن ثمة رموزاً صوفية يتعامل بها الصوفي شاعراً كان أم متفلسفاً أم سالكاً أم واصلاً أم عارفاً. وذلك من مثل رموز المحبوب والارتحال والخمر والسُّكر والحمامة والحية...إلخ. فرمز السكر مثلاً، لدى الحلاج وابن عربي وابن الفارض وابن الدباغ، هو نفسه من حيث المضمون. سواء أكان هذا في الشعر أم في النثر أم في المجاهدة الصوفية. وليس الأمر على هذا النحو في الرمز الفني الذي لامضمون محدداً له. وهو ماسوف نلحظه فيما يأتي من معالجة لرمزي الريح والحجر. ولكن لابدّ من القول إن السياقية لاتنفي أن يشترك عدة شعراء أو نصوص في مضمون واحد لهذا الرمز أو ذاك، أو أن يهيمن مضمون محدد على مرحلة معينة. إذ إن هذا يعود إلى هيمنة هاجس اجتماعي ـ جمالي معين، على هذه المرحلة أو تلك، بسبب الضرورات الاجتماعية والأيديولوجية. والحق أن هذا الاشتراك يفيد في تبيان نبض الواقع وحركته في النصوص الشعرية.
مستويات الرمز في الشعر:
لقد طرح شعر الحداثة العربية أنماطاً عدة، من الرموز الفنية التي تمكنت من تكثيف تجربته الجمالية، في علاقته بالواقع الإجتماعي ـ التاريخي الذي راح يتنامى فيه، بحيث جاءت هذه الرموز بوصفها معادلاً فنياً موضوعياً، للهواجس الاجتماعية والفردية التي برزت مع بروز هذا الشعر. ومن دون أخذ ذلك بعين الاعتبار، يصعب أن نفهم شيوع رموز الخصب والانبعاث، في مرحلة النهوض الوطني، في خمسينيات القرن العشرين. مثلما يصعب أن نفهم شيوع رموز اليباب والتشيؤ والاغتراب، مع تنامي الإحساس بإخفاق حركة التحرر العربية في إنجاز مشروعها الإجتماعي ـ الحضاري.
ومن البدهي أننا لانربط بشكل ميكانيكي بين الرمز الفني والهاجس الإجتماعي، وإنما نسعى إلى تأكيد أن كثيراً من الرموز يصعب فهمها، بمعزل عن الهاجس الإجتماعي، ولاسيما الرموز العامة أو الخاصة منها، فإن للطبيعة النفسية والروحية للمبدع أثراً حاسماً، في إنتاجها. غير أن هذه الرموز قد لاتبقى رموزاً خاصة، فيما إذا تقاطع فيها غير مبدع. وذلك من مثل رمز "الجدار" الذي طرحه أحمد عبد المعطي حجازي، من خلال معاناته النفسية والروحية، وقد ظهر بعده عند العديد من شعراء جيله.
أما أنماط الرموز التي طرحها شعر الحداثة، فهي الرمز الأسطوري، والرمز التاريخي والرمز الاصطناعي(* والرمز الطبيعي، علاوة على البنية الرمزية العامة. ونلحظ أن ثمة مستويات عدة في التعامل مع تلك الرموز، ولاسيما الرمز الأسطوري والتاريخي منها.
وهذه المستويات هي: المستوى التراكمي، والاستعاري، والإشاري المفهومي، والمحوري. ولابأس من التمثل لكل مستوى من هذه المستويات التي قد تتجاور في النص الشعري الواحد.
فمن حيث المستوى التراكمي، فقد بدا أن الشاعر الحداثي وكأنه اكتشف في الأسطورة نصاً فنياً معادلاً لما يسعى إلى التعبير عنه ، فراح يترك للأسطورة حرية القول عنه، مماجعل من بعض النصوص الشعرية مزدحماً بالرموز الأسطورية التي كادت أن تكون هي القول الشعري نفسه . بكلمة أخرى: إن الأسطورة بدت ، في هذا المستوى ، وكأنها الحامل للهاجس الشعري ، حتى تراكمت الرموز بحيث لم تعد رموزاً بقدر كونها إشارات إلى الأسطورة من جهة. وإلى الهاجس الشعري من جهة أخرى، ولعل السياب من أوائل الشعراء الذين أغرقوا في التعامل مع الرموز، في هذا المستوى. ولنقرأ السياب في مقبوس يعالج فيه تراجيدية المومس العمياء، من خلال تراجيدية الملك أوديب، في أسطورته المعروفة:
من هؤلاء العابرون
احفاد (أوديب) الضرير ووارثوه المبصرون
(جوكست ) أرملة كأمس، وباب (طيبة) مايزال
يلقي (أبو الهول) الرهيب عليه، من رعب ظلال
والموت يلهث في سؤال .